وَ مِنْ خُطْبَةٍ لَهُ علیه السلام
رُوِیَ عَنْ نَوْفٍ الْبَکَالِیِّ قَالَ خَطَبَنَا بِهَذِهِ الْخُطْبَةِ
أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام بِالْکُوفَةِ وَ هُوَ قَائِمٌ عَلَى
حِجَارَةٍ نَصَبَهَا لَهُ جَعْدَةُ بْنُ هُبَیْرَةَ الْمَخْزُومِیُّ وَ
عَلَیْهِ مِدْرَعَةٌ مِنْ صُوفٍ وَ حَمَائِلُ سَیْفِهِ لِیفٌ وَ فِی
رِجْلَیْهِ نَعْلَانِ مِنْ لِیفٍ وَ کَأَنَّ جَبِینَهُ ثَفِنَةُ بَعِیرٍ
فَقَالَ علیه السلام:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی إِلَیْهِ مَصَائِرُ الْخَلْقِ وَ عَوَاقِبُ
الْأَمْرِ نَحْمَدُهُ عَلَى عَظِیمِ إِحْسَانِهِ وَ نَیِّرِ بُرْهَانِهِ وَ
نَوَامِی فَضْلِهِ وَ امْتِنَانِهِ حَمْداً یَکُونُ لِحَقِّهِ قَضَاءً وَ
لِشُکْرِهِ أَدَاءً وَ إِلَى ثَوَابِهِ مُقَرِّباً وَ لِحُسْنِ مَزِیدِهِ
مُوجِباً وَ نَسْتَعِینُ بِهِ اسْتِعَانَةَ رَاجٍ لِفَضْلِهِ مُؤَمِّلٍ
لِنَفْعِهِ وَاثِقٍ بِدَفْعِهِ مُعْتَرِفٍ لَهُ بِالطَّوْلِ مُذْعِنٍ لَهُ
بِالْعَمَلِ وَ الْقَوْلِ وَ نُؤْمِنُ بِهِ إِیمَانَ مَنْ رَجَاهُ مُوقِناً
وَ أَنَابَ إِلَیْهِ مُؤْمِناً وَ خَنَعَ لَهُ مُذْعِناً وَ أَخْلَصَ لَهُ
مُوَحِّداً وَ عَظَّمَهُ مُمَجِّداً وَ لَاذَ بِهِ رَاغِباً مُجْتَهِداً
لَمْ یُولَدْ سُبْحَانَهُ فَیَکُونَ فِی الْعِزِّ مُشَارَکاً وَ لَمْ
یَلِدْ فَیَکُونَ مَوْرُوثاً هَالِکاً وَ لَمْ یَتَقَدَّمْهُ وَقْتٌ وَ لَا
زَمَانٌ وَ لَمْ یَتَعَاوَرْهُ زِیَادَةٌ وَ لَا نُقْصَانٌ بَلْ ظَهَرَ
لِلْعُقُولِ بِمَا أَرَانَا مِنْ عَلَامَاتِ التَّدْبِیرِ الْمُتْقَنِ وَ
الْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ فَمِنْ شَوَاهِدِ خَلْقِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ
مُوَطَّدَاتٍ بِلَا عَمَدٍ قَائِمَاتٍ بِلَا سَنَدٍ دَعَاهُنَّ فَأَجَبْنَ
طَائِعَاتٍ مُذْعِنَاتٍ غَیْرَ مُتَلَکِّئَاتٍ وَ لَا مُبْطِئَاتٍ وَ لَوْ
لَا إِقْرَارُهُنَّ لَهُ بِالرُّبُوبِیَّةِ وَ إِذْعَانُهُنَّ
بِالطَّوَاعِیَةِ لَمَا جَعَلَهُنَّ مَوْضِعاً لِعَرْشِهِ وَ لَا مَسْکَناً
لِمَلَائِکَتِهِ وَ لَا مَصْعَداً لِلْکَلِمِ الطَّیِّبِ وَ الْعَمَلِ
الصَّالِحِ مِنْ خَلْقِهِ جَعَلَ نُجُومَهَا أَعْلَاماً یَسْتَدِلُّ بِهَا
الْحَیْرَانُ فِی مُخْتَلَفِ فِجَاجِ الْأَقْطَارِ لَمْ یَمْنَعْ ضَوْءَ
نُورِهَا ادْلِهْمَامُ سَجْفِ اللَّیْلِ الْمُظْلِمِ وَ لَا اسْتَطَاعَتْ
جَلَابِیبُ سَوَادِ الْحَنَادِسِ أَنْ تَرُدَّ مَا شَاعَ فِی السَّمَاوَاتِ
مِنْ تَلَأْلُؤِ نُورِ الْقَمَرِ فَسُبْحَانَ مَنْ لَا یَخْفَى عَلَیْهِ
سَوَادُ غَسَقٍ دَاجٍ وَ لَا لَیْلٍ سَاجٍ فِی بِقَاعِ الْأَرَضِینَ
الْمُتَطَأْطِئَاتِ وَ لَا فِی یَفَاعِ السُّفُعِ الْمُتَجَاوِرَاتِ وَ مَا
یَتَجَلْجَلُ بِهِ الرَّعْدُ فِی أُفُقِ السَّمَاءِ وَ مَا تَلَاشَتْ
عَنْهُ بُرُوقُ الْغَمَامِ وَ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ تُزِیلُهَا عَنْ
مَسْقَطِهَا عَوَاصِفُ الْأَنْوَاءِ وَ انْهِطَالُ السَّمَاءِ وَ یَعْلَمُ
مَسْقَطَ الْقَطْرَةِ وَ مَقَرَّهَا وَ مَسْحَبَ الذَّرَّةِ وَ مَجَرَّهَا
وَ مَا یَکْفِی الْبَعُوضَةَ مِنْ قُوتِهَا وَ مَا تَحْمِلُ الْأُنْثَى فِی
بَطْنِهَا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْکَائِنِ قَبْلَ أَنْ یَکُونَ کُرْسِیٌّ
أَوْ عَرْشٌ أَوْ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ أَوْ جَانٌّ أَوْ إِنْسٌ لَا
یُدْرَکُ بِوَهْمٍ وَ لَا یُقَدَّرُ بِفَهْمٍ وَ لَا یَشْغَلُهُ سَائِلٌ وَ
لَا یَنْقُصُهُ نَائِلٌ وَ لَا یَنْظُرُ بِعَیْنٍ وَ لَا یُحَدُّ بِأَیْنٍ
وَ لَا یُوصَفُ بِالْأَزْوَاجِ وَ لَا یَخْلُقُ بِعِلَاجٍ وَ لَا یُدْرَکُ
بِالْحَوَاسِّ وَ لَا یُقَاسُ بِالنَّاسِ الَّذِی کَلَّمَ مُوسَى
تَکْلِیماً وَ أَرَاهُ مِنْ آیَاتِهِ عَظِیماً بِلَا جَوَارِحَ وَ لَا
أَدَوَاتٍ وَ لَا نُطْقٍ وَ لَا لَهَوَاتٍ بَلْ إِنْ کُنْتَ صَادِقاً
أَیُّهَا الْمُتَکَلِّفُ لِوَصْفِ رَبِّکَ فَصِفْ جِبْرِیلَ وَ مِیکَائِیلَ
وَ جُنُودَ الْمَلَائِکَةِ الْمُقَرَّبِینَ فِی حُجُرَاتِ الْقُدْسِ
مُرْجَحِنِّینَ مُتَوَلِّهَةٌ عُقُولُهُمْ أَنْ یَحُدُّوا أَحْسَنَ
الْخَالِقِینَ وَ إِنَّمَا یُدْرَکُ بِالصِّفَاتِ ذَوُو الْهَیْئَاتِ وَ
الْأَدَوَاتِ وَ مَنْ یَنْقَضِی إِذَا بَلَغَ أَمَدَ حَدِّهِ بِالْفَنَاءِ
فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَضَاءَ بِنُورِهِ کُلُّ ظَلَامٍ وَ أَظْلَمَ
بِظُلْمَتِهِ کُلُّ نُورٍ أُوصِیکُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ
الَّذِی أَلْبَسَکُمُ الرِّیَاشَ وَ أَسْبَغَ عَلَیْکُمُ الْمَعَاشَ فَلَوْ
أَنَّ أَحَداً یَجِدُ إِلَى الْبَقَاءِ سُلَّماً أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ
سَبِیلًا لَکَانَ ذَلِکَ سُلَیْمَانَ بْنَ دَاوُدَ علیه السلام الَّذِی
سُخِّرَ لَهُ مُلْکُ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ مَعَ النُّبُوَّةِ وَ عَظِیمِ
الزُّلْفَةِ فَلَمَّا اسْتَوْفَى طُعْمَتَهُ وَ اسْتَکْمَلَ مُدَّتَهُ
رَمَتْهُ قِسِیُّ الْفَنَاءِ بِنِبَالِ الْمَوْتِ وَ أَصْبَحَتِ الدِّیَارُ
مِنْهُ خَالِیَةً وَ الْمَسَاکِنُ مُعَطَّلَةً وَ وَرِثَهَا قَوْمٌ
آخَرُونَ وَ إِنَّ لَکُمْ فِی الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً أَیْنَ
الْعَمَالِقَةُ وَ أَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ أَیْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَ
أَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ أَیْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِینَ
قَتَلُوا النَّبِیِّینَ وَ أَطْفَئُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِینَ وَ أَحْیَوْا
سُنَنَ الْجَبَّارِینَ أَیْنَ الَّذِینَ سَارُوا بِالْجُیُوشِ وَ هَزَمُوا
الْأُلُوفَ وَ عَسْکَرُوا الْعَسَاکِرَ وَ مَدَّنُوا الْمَدَائِنَ
مِنْهَا قَدْ لَبِسَ لِلْحِکْمَةِ جُنَّتَهَا وَ أَخَذَهَا بِجَمِیعِ
أَدَبِهَا مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَیْهَا وَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا وَ
التَّفَرُّغِ لَهَا فَهِیَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِی یَطْلُبُهَا
وَ حَاجَتُهُ الَّتِی یَسْأَلُ عَنْهَا فَهُوَ مُغْتَرِبٌ إِذَا اغْتَرَبَ
الْإِسْلَامُ وَ ضَرَبَ بِعَسِیبِ ذَنَبِهِ وَ أَلْصَقَ الْأَرْضَ
بِجِرَانِهِ بَقِیَّةٌ مِنْ بَقَایَا حُجَّتِهِ خَلِیفَةٌ مِنْ خَلَائِفِ
أَنْبِیَائِهِ ثم قال علیه السلام أَیُّهَا النَّاسُ إِنِّی قَدْ بَثَثْتُ
لَکُمُ الْمَوَاعِظَ الَّتِی وَعَظَ بِهَا الْأَنْبِیَاءُ أُمَمَهُمْ وَ
أَدَّیْتُ إِلَیْکُمْ مَا أَدَّتِ الْأَوْصِیَاءُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَ
أَدَّبْتُکُمْ بِسَوْطِی فَلَمْ تَسْتَقِیمُوا وَ حَدَوْتُکُمْ
بِالزَّوَاجِرِ فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا لِلَّهِ أَنْتُمْ أَ تَتَوَقَّعُونَ
إِمَاماً غَیْرِی یَطَأُ بِکُمُ الطَّرِیقَ وَ یُرْشِدُکُمُ السَّبِیلَ
أَلَا إِنَّهُ قَدْ أَدْبَرَ مِنَ الدُّنْیَا مَا کَانَ مُقْبِلًا وَ
أَقْبَلَ مِنْهَا مَا کَانَ مُدْبِراً وَ أَزْمَعَ التَّرْحَالَ عِبَادُ
اللَّهِ الْأَخْیَارُ وَ بَاعُوا قَلِیلًا مِنَ الدُّنْیَا لَا یَبْقَى
بِکَثِیرٍ مِنَ الْآخِرَةِ لَا یَفْنَى مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا الَّذِینَ
سُفِکَتْ دِمَاؤُهُمْ وَ هُمْ بِصِفِّینَ أَنْ لَا یَکُونُوا الْیَوْمَ
أَحْیَاءً یُسِیغُونَ الْغُصَصَ وَ یَشْرَبُونَ الرَّنْقَ قَدْ- وَ
اللَّهِ- لَقُوا اللَّهَ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ وَ أَحَلَّهُمْ دَارَ
الْأَمْنِ بَعْدَ خَوْفِهِمْ أَیْنَ إِخْوَانِیَ الَّذِینَ رَکِبُوا
الطَّرِیقَ وَ مَضَوْا عَلَى الْحَقِّ أَیْنَ عَمَّارٌ وَ أَیْنَ ابْنُ
التَّیِّهَانِ وَ أَیْنَ ذُو الشَّهَادَتَیْنِ وَ أَیْنَ نُظَرَاؤُهُمْ
مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِینَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِیَّةِ وَ أُبْرِدَ
بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ قَالَ ثُمَّ ضَرَبَ بِیَدِهِ عَلَى
لِحْیَتِهِ (الشَّرِیفَةِ الْکَرِیمَةِ) فَأَطَالَ الْبُکَاءَ ثُمَّ قَالَ
علیه السلام أَوَّهْ عَلَى إِخْوَانِیَ الَّذِینَ تَلَوُا الْقُرْآنَ
فَأَحْکَمُوهُ وَ تَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ أَحْیَوُا السُّنَّةَ
وَ أَمَاتُوا الْبِدْعَةَ دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا وَ وَثِقُوا
بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ ثُمَّ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ الْجِهَادَ
الْجِهَادَ عِبَادَ اللَّهِ أَلَا وَ إِنِّی مُعَسْکِرٌ فِی یَومِی هَذَا
فَمَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَى اللَّهِ فَلْیَخْرُجْ.
قَالَ نَوْفٌ وَ عَقَدَ لِلْحُسَیْنِ علیه السلام فِی عَشَرَةِ آلَافٍ وَ
لِقَیْسِ بْنِ سَعْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِی عَشَرَةِ آلَافٍ وَ لِأَبِی
أَیُّوبَ الْأَنْصَارِیِّ فِی عَشَرَةِ آلَافٍ وَ لِغَیْرِهِمْ عَلَى
أَعْدَادٍ أُخَرَ وَ هُوَ یُرِیدُ الرَّجْعَةَ إِلَى صِفِّینَ فَمَا
دَارَتِ الْجُمُعَةُ حَتَّى ضَرَبَهُ الْمَلْعُونُ ابْنُ مُلْجَمٍ لَعَنَهُ
اللَّهُ فَتَرَاجَعَتِ الْعَسَاکِرُ فَکُنَّا کَأَغْنَامٍ فَقَدَتْ
رَاعِیهَا تَخْتَطِفُهَا الذِّئَابُ مِنْ کُلِّ مَکَانٍ